تقدير موقف لـ"مدى الكرمل" | الانتخابات البرلمانيّة وأزمة الأحزاب العربيّة 

أيّ تغيُّر جِدّيّ في المشهد السياسيّ الإسرائيليّ ستكون له إسقاطات على التيّارات السياسيّة العربيّة وعلى مشاريعها ومدى قبولها لدى المجتمع العربيّ. كذلك تتعلّق فرص نجاح هذه القوائم باجتياز نسبة الحسم، بطبيعة الحال، وبالحراك السياسيّ في فترة الانتخابات

تقدير موقف لـ

داخل مركز اقتراع (Getty Images)

أقرّت الهيئة العامّة للكنيست، بتاريخ 30/06/2022، قانون حلّ الكنيست، وأقرّت أن تُجرى الانتخابات للكنيست الخامسة والعشرين بتاريخ 1/11/2022. وبذلك تكون هذه الانتخابات البرلمانيّة هي الخامسة في غضون أربع سنوات.

تقديم الانتخابات البرلمانيّة والتطوّرات السياسيّة الأخيرة، تفرض نفسها على المشهدَيْن السياسيّ والحزبيّ العربيَّيْن في توقيت غير مريح، بأقلّ تقدير، فالحالة السياسيّة العربيّة في مأزق، بل في أزمة، منذ الانتخابات الأخيرة، وتشهد تصدُّعًا سياسيًّا خطيرًا بين القوائم والأحزاب العربيّة، منذ المشارَكة غير المسبوقة لقائمة عربيّة في التحالف الحكوميّ منذ إقامة دولة إسرائيل، فضلًا عن تحالفها مع اليمين المتطرّف. احتدّت هذه الأزمة بعد فشل مشاريع التأثير بشروط اليمين المتطرّف ومشروع الاندماج في معسكر "اللا يمين" والمركز لإسقاط نتنياهو. تقديم الانتخابات في ظلّ هذا الواقع يضع الأحزاب والقوائم العربيّة والمجتمع الفلسطينيّ أمام تحدّيات ليست بسيطة؛ إذ قد يتحوّل عدمُ الاستقرارِ والتصدّعُ على الساحة السياسيّة العربيّة المحلّيّة إلى حالة دائمة من التفكُّك والانقسام السياسيّ تعيق العمل الجماعيّ في المجتمع العربيّ.

مجريات الأمور في المشهد السياسيّ العربيّ الحاليّ، تشير إلى أنّنا بصدد منافسة مستقبليّة بين ثلاثة مشاريع سياسيّة أساسيّة في المجتمع العربيّ سنسلّط الضوء عليها في هذه الورقة، وبتقديرنا أنّه من غير المتوقّع أن تُحسَم في الانتخابات القادمة.

جذور الأزمة

راهِنُ الأحزاب الفاعلة في المشهد السياسيّ لفلسطينييّ الـ48 هو امتداد للتطوّرات السياسيّة التي حصلت منذ إنشاء القائمة المشترَكة عام 2015 حتّى الآن، أبرزها يتمثّل في التراجع المتعمَّد والطوعيّ للنقاشات السياسيّة والفروق الجوهريّة بين مركّبات المشترَكة بعد إقامتها عام 2015، واحتدامها في الجوانب الاجتماعيّة والسياسيّة، بلغت ذروتها في النقاش حول توصية القائمة المشتركة على رئيس الحكومة، حينما بدأت بوادر جِدّيّة لنقاشات سياسيّة ومن ثَمّ التفكيك الثاني للمشتركة قُبَيْل الانتخابات البرلمانيّة الأخيرة في آذار/ مارس عام 2021.

لم يستند تشكيل القائمة المشترَكة عام 2015 إلى مشروع وبرنامج سياسيّ جماعيَّيْن متّفَق عليهما من المركّبات كافّة، للمطالَبة بحقوق أساسيّة جماعيّة موحَّدة تعكس طموح ورغبات المجتمع الفلسطينيّ في الداخل. لم يُطرح مشروع القائمة المشتركة كمشروع مناهض وبديل للمشروع الصهيونيّ الاستعماريّ، بل ارتكز على برنامج عمل برلمانيّ خدماتيّ متّفَق عليه بالخطّ الأدنى الجامع لجميع المركّبات، وهو عبارة عن مجموعة أهداف وعناوين سياسيّة تتمحور في: أهمّيّة دَوْر القائمة المشتركة في التصدّي لليمين الذي قد يصل حدَّ إزاحته عن سدّة الحكم؛ زيادة قوّة المجتمع العربيّ السياسيّة وتأثيره السياسيّ من خلال زيادة عدد ممثّليهم في البرلمان؛ أهمّيّة الوَحدة وأثرها على العمل الجماعيّ للعرب في إسرائيل.

غيابُ المشروع السياسيّ الجماعيّ، واكتفاءُ المشتركة بخطاب التأثير وإسقاط اليمين الذي تحوّل لاحقًا إلى خطاب إسقاط نتنياهو، أسهَمَا في تقليص الـمَطالب السياسيّة وفي فشل المشتركة في التعامل مع المطبّات والإشكاليّات التي واجهتها بعد انتخابات عام 2015 (منها -على سبيل المثال لا الحصر- المشاركة في فعاليّات سياسيّة لأحزاب المركز، واجتماعات لممثّلين إسرائيليّين وفلسطينيّين في القدس الشرقيّة، وموضوع التناوب)، وكذلك يمكن اعتبارها بذورًا لأسباب تفكُّك المشتركة بصورة نهائيّة قُبَيْل انتخابات آذار عام 2021، نتيجة خلافات سياسيّة ومشاريع سياسيّة متنافسة بين المركّبات. بعبارة أخرى، محاولة الأحزاب العربيّة ضبط الخلافات السياسيّة، أو تخفيفها أو تأجيلها بعد إقامة القائمة المشترَكة عام 2015، بغية إنجاحها والحفاظ عليها، أفْضَتْ في واقع الأمر إلى عكس المرجوّ، وعادت وفتحت الخلافات الأيديولوجيّة السياسيّة بين الأحزاب العربيّة، وأدّت إلى تفكيك القائمة المشتركة، بل أُضيف إليها تصدُّع جديد بصيغة مشارَكة حزب عربيّ (القائمة العربيّة الموحَّدة) في التحالف الحكوميّ، تحت سقف وشروط أحزاب اليمين واليمين المتطرّف.

الراهن السياسيّ... منافسة بين مشاريع سياسيّة

قُبَيْل انتخابات آذار عام 2021، برزت رغبة القائمة العربيّة الموحَّدة في الاندماج التامّ في اللعبة السياسيّة الإسرائيليّة، ولو بشروط الأحزاب الإسرائيليّة، من ضمنها شروط اليمين واليمين المتطرّف، وذاك يعني -في ما يعني- الاكتفاءَ بالتعاطي مع القضايا المعيشيّة اليوميّة، دون ربطها بالمكانة القوميّة للمواطنين العرب وبطبيعة وجوهر دولة إسرائيل، وتجاهل قضيّة الاحتلال والاستعمار الإسرائيليَّيْن للمناطق الفلسطينيّة المحتلّة عام 1967. نجح هذا التيّار في تخطّي حاجز نسبة الحسم في الانتخابات البرلمانيّة الأخيرة، وحصل على أربعة مقاعد وشارك في التحالف الحكوميّ، والتزم بالحفاظ على هذا التحالف على الرغم من كلّ السياسات العنصريّة الممارَسة تجاه المجتمع العربيّ، وسَنّ قوانين عنصريّة وعدائيّة -كقانون المواطَنة (لمّ الشمل) على سبيل المثال-، واستمرار اقتحامات المسجد الأقصى، وتوسُّع الاستيطان وتعزيزه في الضفّة الغربيّة.

تشير استطلاعات الرأي العامّ في صفوف المجتمع العربيّ إلى أنّه ثمّة نسبة تأييد لا بأس بها لطرح القائمة العربيّة الموحَّدة، وأنّ إمكانيّة اجتياز هذه القائمة نسبة الحسم في الانتخابات المقبلة ليست معدومة، وبذلك تحوّل هذا المشروع إلى مشروع سياسيّ مقبول/ طبيعيّ في المجتمع العربيّ في العامَيْن الأخيرَيْن. وما رَشَحَ من تصريحات لقيادة وممثّلي القائمة العربيّة الموحَّدة يوضّح أنّها مستمرّة في هذا النهج دون أيّ مراجعات نقد داخليّ.

في مقابل ذلك، حاولت القائمة المشترَكة الاندماج في اللعبة البرلمانيّة والحزبيّة الإسرائيليّة، وَفقًا لسقف المركز واليسار الصهيونيَّيْن، والعمل على بناء تحالفات بغية إسقاط اليمين، وتحويل المشترَكة إلى جزء عضويّ وشرعيّ من المنظومة الحزبيّة والسياسيّة الإسرائيليّة، وذلك ضمن السقف السياسيّ الذي تقبل به المنظومة الإسرائيليّة القائمة لا بتحدّيه أو اختراقه، على نحوِ ما اتّضح من إقدام المشترَكة على التوصية على بيني غانتس وبعدها التوصية على يائير لبيد، بالشروط المقبولة على معسكر اللايَمين، ومنها المَطالِبُ بإنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينيّة بالشروط التي يعرضها الإجماع الصهيونيّ وتقبل بها السلطة الفلسطينيّة، والمطالَبةُ بالديمقراطيّة والمساواة للمجتمع العربيّ، وتحقيقُ العدالة الاجتماعيّة – الاقتصاديّة، وهو ما يعني العمل لتحسين الواقع وتقليل العنصريّة والتمييز تجاه المواطنين العرب، دون توضيح الشروط لتحقيق ذلك ودون الاشتباك مع طبيعة إسرائيل وجوهرها. وعلى الرغم من تجربة السنوات الأخيرة، وفشل تجربة التوصية، ومحاولات التأثير على المنظومة الحزبيّة الإسرائيليّة، ما زال هذا الطرح هو الأقوى داخل القائمة المشترَكة.

في المقابل، حاول التجمّع الوطنيّ الديمقراطيّ، على الرغم من وجوده في القائمة المشترَكة، الابتعادَ عن هذه المعادلات، وطرْحَ خيارٍ مناهض للصهيونيّة يرتكز على تمثيل أقلّيّة قوميّة تطرح تحدّيًا ديمقراطيًّا أخلاقيًّا لمشروع الصهيونيّة بصيغة دولة المواطنين؛ ويَقْرن بين القضايا اليوميّة والقضايا القوميّة، ويوضّح علاقتها بطبيعة وجوهر دولة إسرائيل، إلى جانب إقامة الدولة الفلسطينيّة، بدون الوقوع في مطبّ التوازنات والخلافات داخل المنظومة الحزبيّة الإسرائيليّة. بَيْدَ أنّ هذا الطرح كان الأضعف في هذا الاصطفاف، وذلك بسبب هيمنة خطاب التأثير والإنجازات وإسقاط اليمين، وتراجع قوّة وتأثير مشروع التجمُّع الوطنيّ الديمقراطيّ في العَقْد الأخير.

توجُّهات الأحزاب العربيّة في الانتخابات القادمة:

- القائمة العربيّة الموحَّدة (الحركة الإسلاميّة الجنوبيّة) ستسعى إلى تعميق مشروع التأثير والإنجازات، وإلى محاولة تحسين القضايا المعيشيّة للمواطنين العرب، بالتوازي مع تغييبِ البعد القوميّ الجماعيّ والقضيّة الفلسطينيّة، والقبولِ بطبيعة إسرائيل كدولة يهوديّة، أي الخضوع لشروط اليمين المتطرّف، وتعزيزِ خطابها المحافِظ اجتماعيًّا لضمان الشرعيّة الجماهيريّة.

- مشروع الاندماج والتأثير تحت سقف وشروط المركز واليسار الصهيونيَّيْن تمثّله الجبهة والعربيّة للتغيير. بتقديرنا، ستعملان على إقناع المجتمع أنّ مشروعهما يمكن أن يحقّق إنجازات أفضل ويكون له تأثير أقوى دون التنازل عن مطلب حلّ القضيّة الفلسطينيّة وإنهاء الاحتلال وتحقيق مساواة للمجتمع الفلسطينيّ، لكن دون تحدّي جوهر الدولة.

- التجمّع الوطنيّ الديمقراطيّ، بعد أن تراجعت قوّته وحضوره في السنوات الأخيرة، ووافق على عدّة قرارات للقائمة المشتركة لا تتوافق مع طرحه السياسيّ، كالتوصية على غانتس -على سبيل المثال- دون أن يحوّل هذا إلى أزمة في القائمة المشترَكة، وذلك كنوع من البرغماتيّة السياسيّة، وتراجُع خطابه في القائمة المشترَكة (نحو: مناهَضة جوهر يهوديّة الدولة؛ المطالَبة بالحقوق القوميّة الجماعيّة)، وهو ما أضرّ به في نهاية المطاف. وأوضح أنّه يسعى إلى تغيير أو تصويب المسار السياسيّ للقائمة المشتركة، عن طريق طرح مشروع سياسيّ يتلاءم مع الواقع الجديد، يطالب فيه بالمساواة الكاملة، الفرديّة والجماعيّة، والخروج من حالة السيطرة والاستعمار الصهيونيّ لكلّ المواطنين، ويوضح فيه العلاقة بين الحقوق القوميّة الجماعيّة والحقوق المدنيّة المعيشيّة، وكيف تُشتقّ الأخيرة من الأولى. وقد أوضح التجمّع أنّه إن كان لن ينجح في ذلك لا يستبعد الحزب إقامة قائمة تحالفيّة جديدة للمنافسة في الانتخابات البرلمانيّة القادمة.

يمكن تلخيص هذه المشاريع بالتالي:
1. ثمّة ارتداع أو هروب من الاشتباك مع المسبِّب الأوّل لحالة الفلسطينيّين في إسرائيل، ألا وهو جوهر النظام ويهوديّة الدولة والاستعمار الصهيونيّ، انطلاقًا من أنّ المشتبِك مع جوهر النظام قد يتحوّل إلى غير شرعيّ.

2. هذا الابتعاد يؤدّي إلى مشاريع سياسيّة تتعامل مع المنظومة السياسيّة والنظام وكأنّها طبيعيّة، فيها بعض التشوُّهات أو العطب، وتطرح تعديلات بعيدة عن الحلّ الجوهريّ.

3. الرهان على التحالف مع اليسار الصهيونيّ واليمين كمن يملكون حلّ تحسين حالة الفلسطينيّين بشروطهم.

4. ثمّة حالة من اللاتسييس للقضايا المدنيّة. هذا اللاتسييس للواقع يخدم الابتعاد عن الحلول، لا العكس.

5. المطالَبة بخطط اقتصاديّة لتحسين حالة المواطنين العرب، ستفضي إلى تقدُّم وتطوُّر في أوضاع السكّان العرب مقارَنةً بذاتهم قبل سنوات، لكن مع استمرار اتّساع الفجوات مع المجتمع الإسرائيليّ.

6. حضور النقاش في مسألة التأثير وتبديل الحكومات وتحصيل ميزانيّات وموارد وبعض الإنجازات في القضايا المعيشيّة العينيّة، وتغييب النقاش السياسيّ الجوهريّ والقضايا القوميّة الجماعيّة، ومسألة طبيعة النظام والديمقراطيّة.

خاتمة:

المعطيات الحاليّة في المشهد السياسيّ الفلسطينيّ تشير إلى أنّ الانتخابات القادمة ستحمل معها نقاشًا ومنافَسة سياسيّة جِدّيّة في المجتمع العربيّ تختلف عمّا كان في الانتخابات السابقة. خيارات الأحزاب العربيّة لخوض الانتخابات ستكون أوسع من الانتخابات السابقة، نتيجة للحالة السياسيّة الصعبة، ونتيجة تراجع مكانة وأداء القائمة المشترَكة وتوقُّعات استطلاعات الرأي العامّ بشأن عدم زيادة مقاعدها، الأمر الذي يزيد من المنافَسة بين مركّباتها، من جهة، واستقرار قوّة القائمة الموحَّدة والقناعة بعبورها وحدها لنسبة الحسم، من جهة أخرى. في هذه الحالة، قد تستمرّ المنافسة عبر قائمتَيْن: القائمة المشترَكة والقائمة الموحَّدة. وقد تكون ثمّة منافَسة بين ثلاث قوائم عربيّة لأوّل مرّة منذ إقامة القائمة المشتركة عام 2015: قائمة برئاسة الجبهة؛ القائمة العربيّة الموحَّدة؛ قائمة برئاسة التجمّع إذا أصرّ على طرح المشروع الثالث. غير أنّه حتّى الآن لا يبدو أنّه سيكون هنالك حسم لصالح أيّ من المشاريع السياسيّة المتنافسة، بسبب تنوُّع مواقف المجتمع العربيّ تجاه المشاريع السياسيّة، وكذلك بسبب مستوى السيولة العالي في المنظومة الحزبيّة والسياسيّة في إسرائيل. أيّ تغيُّر جِدّيّ في المشهد السياسيّ الإسرائيليّ ستكون له إسقاطات على التيّارات السياسيّة العربيّة وعلى مشاريعها ومدى قبولها لدى المجتمع العربيّ. كذلك تتعلّق فرص نجاح هذه القوائم باجتياز نسبة الحسم، بطبيعة الحال، وبالحراك السياسيّ في فترة الانتخابات، وبنسبة المشارَكة في الانتخابات (التي لا تتعدّى حتّى الآن -وَفقًا لاستطلاعات الرأي العامّ- أكثر من 45%)، وبمَقدرة الأحزاب على رفع نسبة التصويت.

التعليقات